فصل: الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده:

كان السلطان أبو اسحق آخر دولته بجاية قد تحين مهلك حاجبه المستبد عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صنهاجة أهل التنجيم يحدثونه بذلك فأجمع الرحلة إليها وانفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما قدمناه واستولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة وتلقاه أبو محمد بن تافراكين ورآه مرهف الحد للاستبداد الذي لفه ببجاية فكايله بصاع الوفاق وصارفه نقد المصانعة وازدلف بأنواع القربات وقاد إليه النجائب ومنحه الذخائر والأموال وتجافى له عن النظر في الجباية ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد له عليها وأعرس السلطان بها ثم كان مهلكه عقب ذلك فاتح ست وستين وسبعمائة فوجم السلطان لنعيه وشهد جنازته حتى وضع في لحده من المدرسة التي اختطها لقراءة العلم ازاء داره جوفي المدينة وقام على قبره باكيا وحاشيته يتناولون التراب حثيا على جدثه فقرن في الوفاء معه ما تحدث به الناس واستبد من بعده بأمره وأقام سلطانه لنفسه.
وكان أبو عبد الله الحاجب غائبا عن الحضرة وخرج منها بالعسكر للجباية والتمهيد فلما بلغه خبر مهلك أبيه داخلته الظنة وأوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة وارتفع مع حكيم من بني سليم وعرض نفسه على معاقل أفريقية التي كان يظن أنها خالصة لهم فصده محمد بن أبي العيون كاتبه عن عزمه فحمد الحكيم صنيعه وطاف بهم على المهدية وبعث إليه السلطان بمارضيه من الأمان فاستصحب بعد النفور وبادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبر والترحيب وقلده حجابته وأنزله على مراتب العز والتنويه والشرف ونكر هو مباشرة السلطان للناس من رفعه للحجاب ولم يزل يريضه لما ألف من الاستبداد منذ عهد أبيه فأظلم الجو بينه وبين السلطان ودبت عقارب السعاية لمهاده الوثير فتنكر وخرج من تونس ولحق بقسنطينة ونزل بها على السلطان أبي العباس مرغبا له في ملك تونس ومستحثا فأنزله خير نزل ووعده بالنهوض معه إلى أفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه وبين ابن عمه صاحبها من الفتنة كما نذكرها بعد واستبد السلطان أبو اسحق بعد مفر ابن تافراكين عنه ونظر في أعطاف ملكه وعقد على حجابته لأحمد بن إبراهيم المالقي مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمال وعلى العساكر والحرب لمولاه منصور سريحة من المعلوجي وورفع الحجاب بينه وبين رجال دولته وصنائع ملكه حتى باشر جبايات الخراج وعرفاء الحشم وأوصلهم إلى نفسه وألغى الوسايط بينهم وبينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم.

.الخبر عن استيلاء السلطان أبي العباس على بجاية وملك صاحبها ابن عمه:

لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية واستقل بإمارتها تنكر للرعية وساءت سيرته فيهم بإرهاف الحد للكافة وإسخاط الخاصة فغلت الصدور ومرضت القلوب واستحكمت النفرة وتوجهت الضاغية إلى ابن عمه السلطان أبي العباس بقسنطينة لما كان استفسد منه وأعلن بلذاته وأقوم على سلطانه وكانت بينهما فتنة وحروب جرتها المنافسة في تخوم العمالتين منذ عهد الآباء وكان السلطان أبو العباس أيام نزوله على السلطان أتي سالم محمود السيرة والخلال مستقيم الطريقة في مثوى اغترابه وربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرضة لصاحبها للملامة وستثقل نصيحته وشغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى الفتنة فتنبه وشمر عزائمه لها فكان مغلبا فيها واعتلق منه يعقوب بن علي بذمه في المظاهرة على السلطان أبي العباس فلم يغن عنه وراجع يعقوب سلطانه ثم جهز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسنطينة وفيها مولانا أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر وتراجع العرب من أولاد سبع ويحيى وجمع هو أولاد محمد وزحف فيهم وفي عسكر من زناتة والتقى الفريقان بناحية سطيف فاحتل مصاف أهل بجاية وانهزموا واتبعهم السلطان أبو العباس إلى تاكرارت وجال في عمله ووطىء نواحي وطنه وقفل إلى بلده ودخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية وقد استحكمت النفرة بينه وبين أهل بلده فدسوا إلى السلطان أبي العباس بقسنطينة بالقدوم عليهم فوعدهم من العام القابل وزحف سنة سبع وستين وسبعمائة في عساكره وشيعته من الزواودة أولاد محمد وانضوى إليه أولاد سباع بشيعة بجاية بالجوار والسابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم وعسكر الأمير أبو عبد الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء وأقام بها يرجو مدافعة عمه بالصلح فبيته السلطان بمعسكره من لبزو وصحبه في غارة شعواء فانفض جمعه وأحيط به وانتهب المعسكر وفر إلى بجاية فأدرك في بعض الطريق وتقبض عليه وقتل قعصا بالرماح وأغذ السلطان أبو العباس السير إلى بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع وستين وسبعمائة وكنت بالبلد مقيما فخرجت في الملأ وتلقاني بالمبرة والتنويه وأشار إلي بالاصطناع واستوسق له ملك جده الأمير أبي زكريا الأوسط في الثغور الغربية وأقمت في خدمته بعض شهر ثم توخمت الحنقة في نفسي وأذنته في الانطلاق فأذن لي تكرما وفضلا وسعة صدر ورحمة ونزلت على يعقوب بن علي ثم تحولت عنه إلى بسكرة ونزلت إلى ابن موسى إلى أن صفا الجو واستقبلت من أمري ما استدبرت واستأذنته لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه في خبر طويل نقصه من شأني فأذن لي وقدمت عليه فقابلني وجوه عنايته وأشرقت علي أشعة نجعته كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى.